قصة الحمامة المطوقة من كتاب كليلة ودمنة
زعموا أنه كان بأرض ( دستاد ) عند مدينة يقال لها ( ماروات ) مكان للصيد يتصيد فيه الصيادون . وكان في ذلك المكان شجرة عظيمة كثيرة الغصون ملتفة الورق . وكان فيها وكر غراب يقال له ( حائر ) .
فبينما الغراب ذات يوم واقف على الشجرة ، إذ بصر برجل من الصيادين قبيح المنظر سيء الحال وعلى عنقه شبكة ، وفي يده شرك وعصا ، وهو مقبل نحو الشجرة ، فذعر الغراب منه وقال :
لقد ساق الصياد إلى ههنا أمر ، فما أدري ما هو ! ألموتي أم لموت غيري ؟ ولكني ثابت على كل حال ، وناظر ما يصنع .
فنصب الصياد شبكته ونثر فيها حبه وكمن قريبا ؛ فلم يلبث إلا قليلا حتى مرت به حمامة يقال لها المطوقة – وكانت سيدة الحمام – ومعها حمام كثير .
فرأت الحب ولم تر الشبكة ، فانقضت وانقض الحمام معها ، فوقعن في الشبكة جميعا . وجعلت كل حمامة منهن تضرب على ناحيتها وتعالج الخلاص لنفسها .
في الاتحاد قوة
فقالت المطوقة : لا تخاذلن في المعالجة ، ولا تكن نفس كل واحدة منكن أهم إليها من نفس صاحبتها ؛ ولكن تعاونّ عليها ، وطرن بها في علو السماء .
ورأى الصياد صنيعهن فاتبعهن يطلبهن ، ولم يقطع رجاءه منهن ، وظن أنهن لا يطرن إلا قريبا حتى يقعن .
وقال الغراب : لأتبعن حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمرهن وأمره .
والتفتت المطوقة فلما رأت الصياد يقفوهن قالت للحمام : ها هو ذا جاء يطلبكن ؛ فإن نحن أخذنا في الفضاء لم يخف عليه أمرنا ، ولم يزل يتبعنا ، وإن نحن أخذنا في الشجر والعمران لم نلبث أن يخفى عليه أمرنا ، ولم يزل يتبعنا حتى ييأس منا فينصرف .
ومع ذلك إن قريبا من الطريق جحر جرذ ، وهو صديق لي ، فلو انتهينا إليه لقطع عنا هذه الشبكة وخلصنا منها .
خلاص ونجاة
ففعل الحمام ما أمرتهن به المطوقة ، وخفين على الصياد ، فأيس منهن وانصرف .
وثبت الغراب على حاله لينظر هل للحمام من حيلة للخروج مما هن فيه فيتعلمها وتكون عدة لنفسه إن وقع في مثلها .
فلما انتهت المطوقة إلى مكان الجرذ أمرت الحمام بالنزول فوقعن ، ووجدت الجرذ قد أعد مائة جحر للمخارج ، فنادته المطوقة باسمه – وكان اسمه زيرك – فأجابها من الجحر وقال : من أنت ؟
فقالت له : الحمامة المطوقة .
فخرج إليها مسرعا ، فلما رآها في الشبكة قال لها : يا أختي ، ما أوقعك في هذه الورطة وأنت من الأذكياء ؟
قالت له : أما تعلم أنه ليس من الخير والشر شيء إلا وهو محتوم على من يصيبه ، بأيامه وعلله ومدته وكنه ما يبتلى به من قلته وكثرته ؟
فالمقادير هي التي أوقعتني في هذه الورطة ، ودلتني على الحب ، وأخفت علي الشبكة حتى دخلت فيها وصويحباتي .
فأخذ الجرذ في تقريض العُقد التي كانت فيها المطوقة . فقالت له : ابدأ بتقريض عقد سائر الحمام قبلي وانصرف إلي .
فأعادت ذلك عليه مرارا – كل ذلك لا يلتفت إلى قولها – فلما ألحت عليه قال لها : لقد كررت علي هذه المقالة كأنك ليس لك في نفسك حاجة ، ولا ترين لها عليك حقا .
فقالت له المطوقة : لا تلمني على ما سألتك ؛ فإني قد كلفت لجماعتهن بالرياسة ، فحق ذلك علي عظيم . وقد أدين إلي حقي في الطاعة والنصيحة ، بمعونتهن وطاعتهن ، وبذلك نجانا الله من الصياد .